فصل: (باب اختلاف المتبايعين وهلاك المبيع)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البيان في مذهب الإمام الشافعي



.[مسألة: تغير قول البائع بقدر الثمن]

إذا أخبر: أن رأس المال مائة، فباع برأس ماله وربح درهم في كل عشرة، ثم قال البائع: أخطأت، وإنما كان الثمن مائة وعشرة، والربح يكون أحد عشر.. لم يقبل منه؛ لأن هذا رجوع عن إقرار تعلق به حق المشتري، فلم يقبل، كما لو أقرّ له بدين، ثم رجع عنه، فإن أقام بيِّنَة على ذلك.. لم تُسمع؛ لأنه قد كذّبها بإقراره السابق، فإن قال البائع: المشتري يعلم أني صادق، فحلّفوه: أنه ما يعلم.. فهل يلزمه أن يحلف؟ فيه طريقان:
أحدهما قال أبو إسحاق: إن تضمّن قوله تكذيب نفسه، مثل: أن يقول: ابتعته بنفسي.. لم يحلف المشتري؛ لأن إقراره يكذبه، وإن لم يتضمن قوله تكذيب نفسه، بأن يقول: ابتاعه وكيلي، وكنت أظن أنه ابتاعه بمائة، وقد بان لي أنه ابتاعه بمائة وعشرة.. حلف المشتري؛ لأن إقراره لم يتقدم بتكذيب نفسه.
والثاني: من أصحابنا من قال: يبنى على القولين في يمين المدَّعي مع نكول المدَّعى عليه.
فإن قلنا: إنها كالبينة.. لم تعرض اليمين على المشتري. وإن قلنا: إنها كإقرار المدّعى عليه.. عرضت اليمين على المشتري؛ لأن البائع هاهنا هو المدعي، والمشتري مدَّعى عليه، فإذا عرضنا اليمين على المشتري.. فربما نكل عن اليمين فردت على البائع، فيكون يمينه بمنزلة بينة يقيمها، وقد قلنا: إن بيِّنته لا تقبل، فكذلك ما يقوم مقامها.
وإن قلنا: إن يمينه بمنزلة إقرار المشتري.. عرضت اليمين على المشتري؛ لجواز أن ينكل، فيحلف البائع، فيكون كإقرار المشتري، وإقراره مقبول. قال ابن الصباغ: وهذا أصح.
فإذا قلنا: لا يحلف المشتري.. فلا كلام، وإن قلنا: إنه يحلف.. فإنه يحلف: أنه ما يعلم أن البائع اشتراها بمائة وعشرة؛ لأنه يحلف على نفي فعل غيره، فحلف على نفي العلم. فإن حلف.. انصرف البائع، وإن نكل.. رُدَّت اليمين على البائع، فيحلف على القطع: أنه اشتراها بمائة وعشرة؛ لأنه يحلف على فعل نفسه، فإذا حلف.. صار الثمن مائة وأحدًا وعشرين، ويثبت للمشتري الخيار بين الفسخ والإجازة؛ لأنه دخل على أن يكون الثمن مائة وعشرة، فإذا لزمه الأكثر من ذلك.. ثبت له الخيار. وبالله التوفيق

.[باب النجش والبيع على بيع أخيه وبيع الحاضر للبادي]

وبيع الحاضر للبادي وتلقي الركبان والتسعير والاحتكار قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (والنجش خديعة، وليس من أخلاق أهل الدين).
وجملة ذلك: أن النجش حرام، وهو: أن يزيد الرجل في ثمن السلعة وهو لا يريد شراءها، فيراه المشتري، فيظن أنها تساوي ذلك.
والدليل على تحريمه: ما روى ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن النجش».
وروى أبو هريرة: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا تناجشوا، ولا تحاسدوا، ولا تباغضوا، ولا تدابروا، ولا يبع بعضكم على بيع بعض، وكونوا عباد الله إخوانًا».
ولأن هذا خديعة ومكر، فكان حرامًا.
فإن اغتر رجل بمن ينجش، فاشترى.. كان الشراء صحيحًا، وقال مالك: (يكون باطلاً) لأجل النهي.
دليلنا: أن النهي لمعنى في غير المبيع، وإنما هو للخديعة، فلم يمنع صحة البيع.
وهل يثبت للمشتري الخيار إذا علم؟ ينظر فيه:
فإن لم يكن النجش بمواطأة من البائع.. فلا خيار للمشتري؛ لأنه لم يوجد من جهة البائع تدليس، وإن كان النجش بمواطأة من البائع.. فهل يثبت للمشتري الخيار؟ فيه وجهان:
أولهما قال أبو إسحاق: يثبت له الخيار؛ لأن ذلك تدليس من جهة البائع، فأشبه التصرية.
والثاني: لا يثبت له الخيار، وهو ظاهر النص؛ لأنه ليس فيه أكثر من الغبن،
وذلك لا يثبت الخيار؛ لأن التفريط جاء من قبل المشتري، حيث اشترى ما لا يعرف قيمته، فأمّا إذا قال البائع: أُعطيت بهذه السلعة كذا، فصدّقه المشتري، فاشتراها بذلك، ثم بان أنه كاذب في ذلك.. فإن البيع صحيح.
قال ابن الصبّاغ: وينبغي أن يكون في إثبات الخيار للمشتري هذان الوجهان.

.[مسألة: مما نهي عنه من البيع]

قال الشافعي: قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يبع بعضكم على بيع بعض».
وجملة ذلك: أن الرجلين إذا تبايعا عينًا وبينهما خيار مجلس أو خيار شرط، فجاء رجل إلى المشتري، فقال: أنا أبيعك مثل هذه السلعة بدون ثمنها الذي اشتريتها به، أو أبيعك خيرًا منها بمثل ثمنها.. فهذا حرامٌ لا يحل؛ لما روى ابن عمر: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا يبع بعضكم على بيع بعض». وروى أبو هريرة: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا يبع أحدكم على بيع أخيه»، ولأن هذا إضرار وإفساد فلم يحل.
وهكذا: إذا قال للبائع في مدة الخيار: افسخ البيع وأنا أشتريها منك بأكثر من هذا الثمن.. فإن هذا محرمٌ؛ لأن فيه معنى نهي النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فإن فسخ ـ المشتري في الأولى، أو البائع في الثانية ـ البيع، وبايع الثاني.. صحَّ؛ لأن النهي كان لا لمعنًى في البيع.. فلم يمنع جواز البيع.

.[مسألة: السوم على سوم آخر]

وأمّا السوم على سوم أخيه: ففيه ثلاث مسائل:
إحداهن: أن يسأل رجل رجلاً أن يبيعه سلعة، فيرده البائع، ولا يؤخذ منه ما يدل على الرِّضا بالبيع، فلا يحرم على غيره أن يسأله أن يبيعه إياها؛ لأنه لا ضرر على الأول بذلك.
الثانية: إذا أجابه البائع إلى البيع، بأن يصرح بالرضا بالبيع، أو يأذن لوكيله أن يعقد له، فيأتي آخر إلى البائع، فيقول: أنا أشتريها منك بأكثر من ذلك الثمن أو بأجود منه.. فهذا الفعل محرّم؛ لما روي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا يخطبن أحدكم على خطبة أخيه، ولا يسومن أحدكم على سوم أخيه»، ولأن فيه إضرارًا بالأول.
الثالثة: أن لا يصرح البائع بالرضا بالبيع من الأول، ولكن وجد منه ما يدل عليه، بأن يقول: أنا أشاور على ذلك، وما أشبهه، فهل يحرم على غيره أن يدخل على سومه؟ فيه وجهان، بناءً على القولين في الدخول على خطبة غيره إذا وجد من الوليّ التعريض بالإجابة:
أحدهما قال في القديم: (يحرم)؛ لأن في إفسادًا لما تقارب بينهما.
والثاني: قال في الجديد: (لا يحرم)؛ لأنه لم يوجد منه الرِّضا بذلك. هذا إذا سام على سوم أخيه.
فأمّا إذا استام على سوم أخيه، مثل: أن قال البائع: أبيعكها بمائة، وقال المشتري: بل أشتريها بتسعين، فيجيء إنسان إلى المشتري، فيقول له: أنا أبيعك مثل هذه السلعة بما قلت أو دونه.. ففيه المسائل الثلاث، إن لم يوجد من المشتري ما يدل على ركونه إلى قول البائع.. فلا يحرم، وإن وجد منه الرضا بقول البائع.. فيحرم، وإن وجد منه التعريض بالرّضا بذلك.. فهل يحرم؟ فيه وجهان.
إذا ثبت هذا: فإن سام، أو استام، واشترى، أو باع.. صحّ ذلك؛ لأن النهي لمعنًى في غير المبيع، فلم يمنع صحة البيع. فأمّا إذا عرضت السلعة في حال النداء: لم يحرم على من أراد أن يشتريها الزيادة في ثمنها؛ لما روى أنس: «أن رجلاً من الأنصار أصابه جوعٌ وجهدٌ، فشكا إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ما لك شيءٌ؟» قال: بلى، حلسٌ وقدَحٌ، فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «اذهب، فأت بهما"، فأتى بهما، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من يشتريهما؟»، فقال رجلٌ: أنا أشتريهما بدرهم، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من يزيد على درهم " فقال آخر: أنا أشتريهما بدرهمين، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «هما لك بدرهمين»، ولأن هذا لا يؤدي إلى الإفساد؛ لأنه لا يقصد بالنداء رجلاً
بعينه، وإنما يطلب استكثار الثمن. و(الحلس): كل شيء ولي ظهر البعير تحت القتب أو لازمه ولم يفارقه.

.[مسألة: بيع حاضر لباد]

ويحرم أن يبيع الحاضر للبادي، وهو: أن يقدم البادي إلى القرية أو البلد بمتاع فيجيء إليه الحاضر في البلد، فيقول: لا تبعْه، فأنا أبيعه لك، وأزيد لك في ثمنه؛ لما روى أبو هريرة: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا يبع حاضر لباد، دعوا الناس يرزق الله بعضهم من بعض». وروى أنسٌ: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا يبعْ حاضرٌ لباد، وإن كان أباه أو أخاه». وروى طاوس، عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا يبعْ حاضرٌ لباد». قال طاوس: قلت لابن عباس: ما معنى: «لا يبعْ حاضرٌ لبادٍ»؟ قال: لا يكون له سمسارًا.
إذا ثبت هذا: فإنما يحرم ذلك بشروط:
أحدها: أن يكون البادي إنما حمل المتاع للبيع، فأمّا إذا حمله لغير البيع: فلا يحرم ذلك على الحاضر.
الشرط الثاني: أن يكون البادي عازمًا على البيع في الحال، ولا يريد التربص به، فأمّا إذا كان البادي يريد التربص ببيعه.. لم يحرم ذلك على الحاضر.
الثالث: أن يأتي الحاضر إلى البادي، ويسأله ذلك، فأما إذا جاء البادي إلى الحاضر وسأله أن يبيع له.. لم يحرم عليه ذلك؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا استنصح أحدكم.. فلينصح»، ولأنا لو منعنا الحاضر من البيع في ذلك.. أدّى ذلك إلى الإضرار بصاحب المتاع، وربّما أدّى ذلك إلى انقطاع الجلب؛ لأن كل أحد لا يقدر على البيع بنفسه.
الشرط الرابع: أن يكون في الناس حاجة إلى ذلك المتاع، والبلد ضيق، فإذا بيع ذلك لمتاع فيه.. اتسع فيه أهل البلد، فأمّا إذا لم يكن على أهل البلد في بيع الحاضر مضرّة، بأن يكون البلد كبيرًا، لا ضرر عليهم في حبس المتاع عنه.. ففيه وجهان:
أحدهما: يحرم على الحاضر البيع له؛ لعموم الخبر.
والثاني: لا يحرم عليه؛ لأنه لا مضرة على أهل البلد بذلك.
إذا ثبت هذا: فكل موضع وجدت فيه هذه الشرائط، وباع الحاضر فيها للبادي.. صحّ البيع؛ لأن النهي لا يعود إلى معنًى في المبيع، فلم يمنع صحّة البيع.

.[مسألة: تلقي الركبان]

قال الشافعي: (قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا تتلقّوا الركبان للبيع». وهذا كما قال: لا يحل تلقي الركبان للبيع، وهو: أن يسمع بقدوم قافلة إلى البلد ومعها متاع فيتلقاها، ويخبرهم بكساد متاعهم، وهم لا يعرفون سعر متاعهم في البلد؛ لبعدهم، فيغرُّهم، ويشتري منهم بدون سعر البلد؛ لما روى أبو هريرة: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن تلقِّي الجلب، فإن تلقّاها متلقٍّ.. فصاحبها بالخيار إذا ورد السوق»، وروى ابن عمر: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا تتلقوا السلع حتى يهبط بها الأسواق»، ولأن فيه إضرارًا بأهل السلع؛ لأن أهل البادية قد لا يعرفون سعر السوق، فيغرهم، فإن خالف وتلقّاهم، واشترى منهم.. صحّ الشراء؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أثبت للبائع الخيار، فلولا أنّ البيع صحيح.. لما أثبت له الخيار؛ ولأنه ليس فيه أكثر من الغرور والتدليس، وذلك لا يمنع صحّة البيع، كالتصرية، فإذا قدم البائع السوق.. نظرت:
فإن كان المشتري قد اشترى منهم بدون سعر البلد ثبت للبائع الخيار؛ لما ذكرناه في الخبر.
وإن اشترى منهم بسعر السوق أو أكثر.. ففيه وجهان:
أحدهما: يثبت للبائع الخيار؛ للخبر.
والثاني: لا خيار له؛ لأن المشتري ما غرّه، ولا دلّس عليه.
إذا ثبت هذا: فكم قدر مدة الخيار؟ فيه وجهان، حكاهما ابن الصبّاغ:
أحدهما: ثلاثة أيام؛ لأنه خيار تدليس، فأشبه خيار المصرّاة.
والثاني ـ وهو الصحيح ـ: أنه على الفور؛ لأنه خيار لغير استعلام العيب، فكان على الفور، كخيار الثلاث، ويخالف المصراة، فهي لاستعلام العيب؛ لأنه قد لا يطلع على التصرية بدون الثلاث.

.[فرع: الخروج لغير التلقي]

وإن خرج لحاجة غير التلقّي، فوافى القافلة.. فهل يجوز له أن يشتري منهم؟ فيه وجهان:
أحدهما: يجوز؛ لأنه لم يقصد التلقي.
والثاني: لا يجوز.
قال ابن الصباغ: وهو الصحيح؛ لأن المعنى الذي نهي عن التلقي لأجله موجود. وإن خرج، وتلقى القافلة، وباع عليهم المتاع.. ففيه وجهان، حكاهما ابن الصبّاغ:
أحدهما: لا يجوز، كما لا يجوز أن يشتري منهم، ولأن في ذلك اختصاصًا به دون أهل البلد.
والثاني: يجوز؛ لأن النهي تعلّق بالشراء دون البيع.

.[مسألة: في التسعير]

التسعير عندنا محرّم، وهو: أن يأمر الوالي أهل الأسواق أن لا يبيعوا أمتعتهم إلا بسعر كذا وكذا، سواء كان في بيع الطعام أو في غيره، وسواء كان في حال الرخص أو في حال الغلاء. هذا نقل أصحابنا البغداديين.
وقال المسعودي في "الإبانة"إن كان في البلد قحطٌ وجدوبةٌ.. فهل يجوز للسلطان التسعير؟ فيه وجهان.
وقال مالك: (يجوز للسلطان التسعير بكل حال).
دليلنا: ما روى أنس قال: غلا السعر على عهد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقالوا: يا رسول الله، غلا السعر، فسعِّر لنا، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إن الله هو المسعر القابض الباسط الرازق، وإنِّي لأرجو أن ألقى الله، وليس أحدٌ يطلبني بمظلمة في دم أو مال».
ولأن الناس مسلطون على أملاكهم، فلا يجوز أن يؤخذ منهم إلا برضائهم، ما لم يكن حالة ضرورة.
قال أبو إسحاق المروزي: إنما منع الشافعي من تسعير الطعام إذا كان يجلب إلى البلد، فأمّا إذا كان البلد لا يجلب إليه الطعام، بل يزرع فيها، ويكون عند التناء فيها.. فيجوز للإمام أن يسعر عليهم إذا رأى في ذلك مصلحة.
قال الشيخ أبو حامد: وهذا غلط، بل الكل محرّمٌ؛ لأن ذلك يؤدي إلى الغلاء؛ لأن أصحابها يمتنعون من بيعها.

.[مسألة: احتكار الطعام]

ويحرم احتكار الطعام، وهو: أن يشتري الإنسان من الطعام ما لا يحتاج إليه في حال ضيقه وغلائه على الناس، فيحبسه عنهم ليزداد في ثمنه، ومن أصحابنا من قال: هو مكروهٌ، وليس بمحرّم. والأول أصح؛ لما روى أبو أمامة: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى أن يُحتكرَ الطعام».
وروى ابن عمر: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من احتكر الطعام أربعين ليلة.. فقد برئ من الله، وبرئ الله منه».
وروي عنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أنه قال: «الجالب مرزوق، والمحتكر ملعونٌ».
وروي: «أن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - خرج يومًا مع أصحابه، فرأى طعامًا كثيرًا قد أُلقي على باب مكة، فقال: ما هذا الطعام؟ فقالوا: أُجلب إلينا، فقال: بارك الله فيه، وفيمن جلبه، قيل له: فإنه قد احتكر، قال: ومن احتكره؟ فقالوا: فلان، مولى عثمان، وفلان مولاك، فأرسل إليهما، فجاءا، فقال لهما: ما حملكما على احتكار طعام المسلمين؟ قالا: نشتري بأموالنا ونبيع، فقال عمر: سمعت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «من احتكر على المسلمين طعامهم.. لم يمت حتى يضربه الله بالجذام أو الإفلاس».
قال الراوي: فأمّا مولى عثمان: فباعه، وقال: والله لا أحتكره أبدًا، وأمّا مولى عمر: فلم يبعه، فرأيته مجذومًا مخدوشًا.
فأمّا إذا جلب الرجل الطعام من بلد إلى بلد، أو اشتراه في وقت رخصه، أو جاءه من ضيعته فحبسه عن الناس.. فإن ذلك ليس باحتكار، إلا أن يكون بالناس ضرورة، وعنده ما يفضل عن قوته وقوت عياله سنةً، فيجب عليه بيع الفضل، فإن لم يفعل أجبره السلطان على ذلك؛ لأن في ذلك نفعًا للناس من غير ضرورةٍ عليه، ولا يحرم عليه احتكار غير الأقوات؛ لـ: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن احتكار الطعام»، فخص الطعام، فدّل على: أن احتكار غيره يجوز، ولأنه لا ضرر في احتكار غير الأقوات، فلم يحرم. وبالله التوفيق

.[باب اختلاف المتبايعين وهلاك المبيع]

إذا اختلف المتبايعان في قدر ثمن السلعة، بأن قال المشتري: اشتريتها منك بألفٍ، وقال البائع: بل بعتكها بألفين، ولا بينة لواحد منهما.. فإنهما يتحالفان، وسواءٌ كانت السلعة باقية أو تالفةً في يد المشتري، وبه قال محمد، وأحمد رحمة الله عليهما في إحدى الروايتين.
وقال أبو حنيفة، وأبو يوسف: (إن كانت السلعة باقية.. تحالفا، وإن كانت تالفةً في يد المبتاع.. فالقول قوله مع يمينه). وهي الرواية الأخرى عن أحمد، وعن مالك ثلاث روايات:
إحداهن: مثل قولنا.
والثانية: مثل قول أبي حنيفة.
والثالثة: إن كان ذلك قبل القبض.. تحالفا، وإن كان بعض القبض.. فالقول قول المشتري.
وقال زفر، وأبو ثور: (القول قول المبتاع بكل حالٍ).
دليلنا: ما روى ابن عبّاس: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «البيِّنة على المدعي، واليمين على المدعى عليه».
والبائع هاهنا يدّعي أنه عقد البيع بألفين، وينكر أنه عقده بألف، والمشتري يدّعي أنه عقده بألف، وينكر أنه عقده بألفين، وإذا كان كل واحد منهما مدّعيًا ومدّعى عليه.. وجب أن يكون على كل واحد منهما اليمين، كما لو ادّعى أحدهما على صاحبه عبدًا، وادّعى المدعى عليه على المدّعي جارية، ولأنهما اختلفا في العقد القائم بينهما، وليس معهما بيِّنة، فتحالفا، كما لو كانت السلعة قائمة مع أبي حنيفة، وكما لو كان قبل القبض مع مالك.

.[مسألة: اختلاف المتعاقدين]

وإن اختلفا في قدر المبيع، بأن قال: المشتري بعتني هذين العبدين بألف، وقال البائع: بل بعتك أحدهما، وهو هذا بألف، أو اختلفا في شرط الخيار، أو في قدره، أو في الأجل، أو في قدره، أو في الرهن، أو في قدره، أو قال البائع: بعتك بثمن بشرط أن تضمن لي فلانًا، فأنكر المشتري ذلك، أو ادّعى المشتري أن البائع شرط له أن يضمن له فلانًا بالعهدة، وأنكر البائع ذلك.. فمذهبنا: أنهما يتحالفان في ذلك كله.
وقال أبو حنيفة، وأحمد: (لا يتحالفان، بل القول قول من ينفيه مع يمينه).
دليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «اليمين على المدعى عليه»، ولأنهما اختلفا في صفة العقد القائم بينهما، ولا بينة، فتحالفا، كما لو اختلفا في الثمن.

.[مسألة: تحالف المختلفين]

وإذا أرادا التحالف.. فإن الشافعي قال هاهنا: (يبدأ بيمين البائع). وهكذا قال في (السَّلَم): (يبدأ بيمين المسلَم إليه). وهو بائعٌ في الحقيقة. وقال في (المكاتب): (إذا أراد اختلفا يبدأ بيمين السيد). وهو بائعٌ في الحقيقة، وقال في (الصداق): (إذا اختلف الزوجان في الصداق يُبدأُ بيمين الزوج). والزوج كالمشتري، وهذا مخالف لما قبله. وقال في (الدعوى والبينات): (إن بدأ بيمين البائع.. خير المشتري، وإن بدأ بيمين المشتري.. خير البائع). وهذا يدل على: أنه بالخيار في البداية.
واختلف أصحابنا في ذلك على طريقين:
فـ[الطريق الأول منهم من قال: في المسألة ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه يبدأ بيمين البائع، وبه قال أحمد؛ لما روى ابن مسعود: أنّ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا اختلف البيِّعان.. فالقول قول البائع، والمبتاع بالخيار».
فبدأ بالبائع أولاً، ولأن جنبته أقوى بعد التحالف؛ لأنهما إذا تحالفا.. رجع المبيع إلى ملكه، فكانت البداية به أولى.
والثاني: يبدأ بيمين المشتري، وهو قول أبي حنيفة؛ لأن جنبته أقوى قبل التحالف؛ لأن المبيع على ملكه، فكانت البداية به أولى، كما لو ادّعى رجل دارًا في يد آخر.
والثالث: أنهما سواءٌ، فيبدأ بأيهما شاء؛ لأنه لا مزية لأحدهما على الآخر؛ لأن السلعة يعود ملكها بعد التحالف إلى البائع، وكذا الثمن يعود ملكه إلى المشتري، فلم يكن لأحدهما على الآخر مزية، كما لو كان في يدهما دارٌ، فادّعى كل واحد منهما ملك جميعها.. فإنهما يتحالفان، ويبدأ الحاكم بيمين من شاء منهما.
قال الشيخ أبو حامد: وهذا القول أقيس، والأول هو ظاهر المذهب.
والطريق الثاني من أصحابنا من قال: المسألة على قول واحد، وإنه يبدأ بيمين البائع، وكذلك في السلم والكتابة، وفي الصداق يبدأ بيمين الزوج؛ لأنهما إذا تحالفا في الصداق.. فإنّ ملك البضع يكون للزوج بعد التحالف، كما أن ملك المبيع يعود إلى البائع بعد التحالف، فأمّا ما ذكره في (الدعوى والبينات): قال الشيخ أبو حامدٍ: فله تأويلان.
أحدُهما: أنّ الشافعي لم يذكر أن هذا مذهبًا له، وإنّما بيّن أن هذا مما يسوّغ فيه الاجتهاد، وإن حاكمًا لو حكم بأنه يبدأ بيمين البائع أو بيمين المبتاع.. نفذ حكمه، ولم ينقض، فأما مذهبه: فيبدأ بيمين البائع.
والتأويل الثاني: أنّ الشافعي إنما قصد بهذا أن يبين أن قولنا: إنه يبدأ بيمين البائع، ليس على وجه الشرط، ولكن على سبيل الاستحباب، ولو بدأ بيمين المبتاع.. صحّ، ووقعت موقعها.